ما هو القرآن الكريم ؟
القرآن هو اسم لكلام الله تعالى المنزّل على عبده ورسوله محمد المتعبد بتلاوته ، المعجز بكل سورة منه ، وهو اسم لكتاب الله خاصة ، ولا يسمى به شيء من سائر الكتب .
ومن أسمائه الفرقان والكتاب والذكر والتنزيل وقد غلب عليه اسما القرآن والكتاب ، وفي ذلك إشارة إلى شدة العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد ، أعني في الصدور والسطور جميعًا ، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .
القرآن الكريم كلام الله تعالى :
القرآن من كلام الله ، وقد تكلم به حقيقة لا مجازًا ، من باب إضافة الكلام إلى قائله ، وهو الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيرًا ، فإضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم إضافة تبليغ وأداء ، لا إنشاء وابتداء والمشكك في هذه الحقيقة ليس أمامه إلا أن يضيف هذا القرآن إلى النبي نفسه ، أو إلى مخلوق علّمه إياه .
أما الاحتمال الأول : وهو كون القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لفرط ذكائه ، ونفاذ بصيرته ، وشفافية روحه ، مما يجعله ينشئ -بزعمهم- مثل هذا الكلام البديع الرصين ، فمردود بأدلة كثيرة ، منها :
1- أن الرجل مهما بلغ ذكاؤه وصفت سريرته أنى له أن يأتي بذكر لأحوال الأمم الغابرة ، ومسائل العقائد والشرائع ، وما في الجنة والنار من النعيم والعذاب ، ثم يذكر لنا ما سيقع في قابل الأيام والدهور ، كل ذلك على نحو من التفصيل والتدقيق ، مع تمام السبك ، وقوة الأسلوب ، ومن غير تضاد ولا اختلاف ، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلو كتابا ، ولم يخالط أهل التاريخ .
2- التحدي الصارم الذي واجه به القرآن الكفار ، وأنهم لم ولن يأتوا بمثل شيء من سوره ، يبعد عن الرسول -مع ما عرف عنه من الحصافة والحكمة- أن يغامر في الدخول فيه مع أئمة البيان وفحول الفصاحة ، وهو يرجو لرسالته أن تنتصر ولدعوته أن تنتشر .
3- هذا القرآن تضمن بعضا لمواضع العتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم : في مواقف اجتهد فيها لكنه جانب فيها الصواب ، أو الأصوب ، فنزل القرآن مبينا وجه الحق ومخطئا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيكف يجمل بحكيم عاقل يخطئ نفسه وينشر ذلك في الناس ، ولو كان يملك أدنى تصرف في هذا القرآن لأخفى مثل هذه المواضيع ، وسترها عن الناس وقد قال الله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ }{ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ }{ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }{ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } .
4- تصدير كثير من الآيات في القرآن بكلمة "قل" بل قد تكررت هذه الكلمة أكثر من ثلاثمائة مرة ، وفي توجيه الخطاب لمحمد وتعليمه ما ينبغي أن يقول , فهو لا ينطق عن هواه ، بل يتبع ما يوحى إليه ، فهو مخاطب لا متكلم ، حاكٍ ما يسمعه لا معبر عن شيء يجول في نفسه .
5- الاتفاق التام بين إشارات القرآن الكريم إلى بعض العلوم الكونية وبين معطيات العلم الحديث ، الأمر الذي أثار دهشة كثير من الباحثين الغربيين المعاصرين ، حيث تعرض القرآن الكريم لقضايا علمية دقيقة - نحو ما يتعلق بعلم الأجنة والفلك والبحار - لم تكتشف وسائل معرفتها إلا بعد عصر نزول القرآن بعدة قرون .
أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلّم القرآن من غيره فهذا باطل من وجوه :
1- أمية محمد : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا ، بين أناس أميين ، لا يعرفون غير علم البيان والفصاحة وما يتصل بهما ، وكانوا منعزلين بشركهم عن أهل الكتاب قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } ففيه إشارة واضحة إلى أن هذا النوع من العلم ما كان عند العرب ، وليس لهم به دراية ، ولم يرد أنهم اعترضوا على هذا الحكم عليهم بأنهم يجهلون الأمور المشار إليها في الآية .
2- عدم تعرض العرب لمعارضته : فلم يدَّعِ واحد من خصومه من العرب -مع شدة تكذيبهم- نسبة القرآن إلى نفسه ، ثم إن الله تعالى قد تحدى به بلغاءهم وفصحاءهم على أن يأتوا بسورة من مثله ، فلم يتعرض واحد منهم لذلك ، اعترافا بالحق ، ونأيا بالنفس عن تعريضها للافتضاح ، وهم أهل القدرة في فنون الكلام نظما ونثرا ، وترغيبا وزجرا .
3- عربية القرآن وأعجمية لسان أهل الكتاب : لم يذكر في أيّ من المصادر التاريخية جلوس النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي أحبار اليهود ، أو رهبان النصارى ، بغية التعلم والمدارسة . ثم إن هذا القرآن عربي فصيح لا عهد لأهل الكتاب به ، ولهذا قال تعالى ردا على من ادعى أن القرآن من وحي أهل الكتاب : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }
4- موقف القرآن من أهل الكتاب : موقف القرآن من أهل الكتاب بدحض شبهاتهم وأغاليطهم ، ثم دعوتهم إلى الإيمان بالرسول الكريم ، والاستجابة للذكر الحكيم يُبعد أن يكونوا هم مصدر القرآن ومنبعه ، وهذه حالهم من الإعراض عنه والكفر به ، وبمن أنزل عليه .
معنى الوحي :
الوحي هو إعلام الله تعالى من اصطفاه برسالته كل ما أراد إطلاعه عليه من أمره وعلمه وهو آتيه ليبلغه إلى من شاء الله تعالى من خلقه .
فالوحي أمر مشترك بين جميع رسل الله ، كما جاء في قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا }{ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } .
إمكانية وقوع الوحي :
الوحي أمر واقع لا يمكن إنكاره عند كل من آمن بوجود الله تعالى وكمال قدرته ، فالخالق المدبر يرعى خلقه بما شاء من أنواع التدبير والرعاية ، والصلة بين الخالق وخلقه إنما تكون عبر رسله ، ورسل الله لا يعرفون مراد الله إلا عن طريق الوحي سواء كان بواسطة أو بغير واسطة . فالعقل السليم لا يستبعد إمكانية الوحي ، لأن الخالق القادر لا يصعب عليه شيء .
حقيقة الوحي الرباني :
الوحي ليس معاناة ذاتية يعالجها النبي في نفسه ، بمعنى أنه ليس ضربا من ضروب الكشف والإلهام الذي يكتسبه الإنسان بممارسة بعض الرياضات الروحية العنيفة بل الوحي حوار علوي بين ذاتين : ذات متكلمة آمرة معطية ، وذات مخاطبة مأمورة متلقية . ولم يخلط النبي محمد صلى الله عليه وسلم-والأنبياء عليهم الصلاة والسلام- بين ذواتهم الإنسانية المأمورة المتلقية وبين ذات الوحي الآمرة المتعالية ، فالإنسان واع أنه إنسان ضعيف بين يدي الله ، يخاف عذاب ربه إن عصاه ، ويرجو رحمته ، ويستمد منه العون ، ويصدع بما يأمره به ، وأحيانا يتلقى العتاب الشديد ، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله ، قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } .
كل هذا وغيره يحمل على الإقناع بالفرق الذي لا يتناهى بين ذات الخالق وذات المخلوق ، وبين صفة الخالق وصفة المخلوق ، وبين أسلوب الخالق وأسلوب المخلوق .
تفريق النبي بين كلامه وكلام الله :
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على التفريق بين أحاديثه التي يصوغها بأسلوبه الخاص وهو ما يعرف بالحديث النبوي - رغم أن أصلها من الوحي عن طريق الإلهام - وبين الوحي القرآني ، بل منع بادئ الأمر أن يُكتب منها شيء مع القرآن ، حتى تبقى للقرآن منزلته الخاصة في كونه لفظًا ومعنى من عند الله تعالى ، ولا يختلط به شيء من كلام الناس .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يفرّق بين ما يقوله عن اجتهاد من نفسه وبين ما ينسبه إلى الله تعالى ، ولهذا قال : « إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ، ولكن ما قلت لكم : قال الله ، فلن أكذب على الله » .
الرسول لا يملك من أمر الوحي شيئا :
فالوحي قوة خارجة عن ذات النبي لا يملك التصرف فيها بما شاء ، ومما يؤكد ذلك أنه كانت تنزل بالنبي أو بأحد ممن حوله أحيانا نوازل تتطلب حلا سريعا ، لكنه لا يجد فيها قرآنا يقرؤه على الناس ، فيلتزم الصمت ، وينتظر ، وربما طال الانتظار ، وهو في حاجة ملحة للجواب والفرج , لحكمة يعلمها الله تعالى . مثال ذلك : حادثة الإفك ، وهي الفرية على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بعض المنافقين بما هي بريئة منه ، وأخذ الناس يلوكون عرض النبي النقي ، حتى بلغت القلوب الحناجر ، وهو لا يملك أن ينهي هذه المشكلة ، بل غاية ما قاله : « يا عائشة ، أما إنه بلغني كذا وكذا " ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله » . ومضى شهر بأكمله ، حتى نزل الوحي ببراءة عائشة ، وطهارة بيت النبوة وخلاصة الأمر : أن الوحي حالة غير اختيارية ، وعارض غير عادي وقوة خارجية ، وهو قوة عالمة ، لأنها توحي علمًا ، وهو قوة خيرة معصومة ، لأنه لا يأتي إلا بالحق ، ولا يأمر إلا بالرشد .
كيفية وحي الله تعالى إلى ملائكته :
جاء في القرآن الكريم ما ينص على تكليم الله ملائكته ، كما في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } وكما في قوله تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } فوحي الله إلى ملائكته تكلم من الله ، وسماع من الملائكة .
طرق إعلام الله تعالى رسله :
وحي الله تعالى إلى رسله يكون بواسطة وبغير واسطة :
الوحي بواسطة : وهو الملك جبريل عليه السلام ، ويكون ذلك بإحدى حالتين :
الحالة الأولى : أن يأتيه الملك بصوت مثل صلصلة الجرس وهي أشد على الرسول صلى الله عليه وسلم فالصوت القوي يثير عوامل الانتباه ، فتتهيأ النفس بكل قواها لقبول أثره ، فإذا نزل الوحي بهذه الكيفية على الرسول صلى الله عليه وسلم نزل عليه وهو مستجمع القوى الإدراكية لتلقيه وحفظه وفهمه .
الحالة الثانية : أن يتمثل له الملك رجلا ويأتيه في صورة بشر ، وهذه الحالة أخف من سابقتها ، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع ، ويأنس رسول النبوة عند سماعه من رسول الوحي ، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان .
وكلتا الحالتين مذكورة في سؤال الحارث بن هشام رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشد علي ، فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول . »
الوحي بغير واسطة :
من ذلك :
1- الرؤيا الصالحة في المنام : فعن عائشة رضي الله عنها قالت : « أول ما بدئ به الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » أي في قوة ودقة تحققها وتصديقها .
وكان ذلك تهيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينزل عليه الوحي يقظة لكن ليس في القرآن شيء من هذا النوع لأنه نزل جميعه يقظة .
ومما يدل على أن الرؤيا الصالحة للأنبياء في المنام وحي يجب اتباعه ما جاء في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من رؤيا ذبحه لابنه ، وقد حكى الله قصته في قوله : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ }{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ }{ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ }{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ }{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ }{ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } ولو لم تكن هذه الرؤيا وحيا يجب اتباعه لما أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده لولا أن منّ الله عليه بالفداء .
والرؤيا الصالحة ليست خاصة بالرسل فهي باقية للمؤمنين وإن لم تكن وحيًا ، كما جاء في الحديث : « لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا » .
2- الكلام الإلهي من وراء حجاب يقظة بدون واسطة : وهذا ثابت لنبي الله موسى عليه السلام قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وقال : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } كما ثبت التكليم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج حين عرج به إلى السماء وكلمه ربه , وأنواع الوحي المتقدمة ذكرها الله تعالى في مثل قوله : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } .
حفظ القرآن الكريم وسلامته من التحريف :
أنزل الله تعالى كتابه القرآن ليكون الكتاب المهيمن ، والرسالة الخاتمة ، والشريعة الباقية ، مما يتطلب رعايته عن عبث العابثين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وقد اتفق له ذلك منذ اللحظة الأولى لنزوله وحتى يومنا هذا ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، لا زيادة فيه ولا نقصا ، وقد ورد إلينا متواترا بنقل الكافة [ الجمع الكبير من الناس الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب ] التي لا تقع تحت عد ولا حصر عن مثلها حفظا وكتابة ، ولم يختلف في عصر من العصور في سورة ، ولا آية ، ولا في كلمة ، بل كثير من هؤلاء النقلة لا يحسن العربية لكنه يقرأ القرآن كما أنزل .
وقد ضمن الله تعالى لكتابه السلامة من التحريف ، كما في قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وهذا يقتضي حفظ عينه وهيئته التي نزل عليها . وقد أقر بهذا كل من بحث في أمر القرآن من المسلمين وغيرهم .
وللحفظ وجوه عدة ووسائل متنوعة :
أولا : حفظ القرآن في عهد النبوة :
وتم ذلك بوسائل متنوعة منها :
1- الطريقة التي كان ينزل بها الوحي :
وهي أن ينزل على هيئة تكون أدعى إلى حفظه وضبطه ، فقد سئل الرسول عن كيفية نزول الوحي إليه فقال : « أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني ، فأعي ما يقول » .
2- مدارسة الملك النبي القرآن :
وكان ذلك في رمضان من كل سنة ، يأتيه جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، وقد عرض عليه القرآن مرتين في العام الذي قبض فيه . كل هذا حرصا على حفظه ومراعاة لصحة لفظه .
3- كتابة الوحي ومقابلته :
فقد اتخذ الرسول إلى جانب ذلك كُتّابا يكتبون له الوحي أولا بأول ، ويراجع ذلك هو بنفسه ، حتى يطمئن إلى صحة ما كتب .
4- قصر الكتابة على القرآن :
وذلك في بادئ الأمر ، حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن كالحديث والتفسير لئلا يختلط القرآن بغيره ، فكان يمنع أصحابه أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن ، فلما اطمأن إلى رسوخ القرآن وسلامته من الاختلاط بغيره ، أذن لهم في الكتابة .
5- الحض على تعلم القرآن وتعليمه :
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم القرآن وتعليمه ، وحفظه وتحفيظه ، ويقدم أكثرهم أخذا للقرآن في إمامة الصلوات ، وقيادة الجيوش . بل الحاجة داعية لحفظه فهو الكتاب المفروضة قراءته في الصلوات ، وتنفيذ أحكامه وآدابه في ضروب الحياة .
6- قوة الحافظة التي عند العرب :
كان العرب يتمتعون بحافظة لا يكاد يعزب عنها شيء ، خاصة وأن القرآن جاء في براعة من الأسلوب ، ورفعة من البيان مما يجعله أحرى لحفظه ، والاهتمام به ، حتى كثر آخذوه : صدرا وسطرا ، فحفظه الكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، والحضري والبدوي .
ثانيًا : حفظ القرآن في عهد الصحابة رضي الله عنهم :
تعاهد الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ربهم وديوان شريعتهم بالحفظ والعناية ، وتجلى ذلك عبر حادثتين عظيمتين :
الأولى : في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين كثر موت حفظة القرآن بسبب الحروب ، فخشي هو ونفر من كبار الصحابة ذهاب القرآن بموت حفظته ، فأمر بجمع القرآن وذلك بجمع كل ما كتب عليه من الأخشاب والجلود ونحوها من وسائل الحفظ آنذاك ، وكذلك ما كان محفوظا في صدور الرجال ، وتم جمع القرآن جميعه مكتوبا في مكان واحد يشرف عليه الخليفة وخلفاؤه من بعده .
الثانية : في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث كان القرآن - إلى ذلك الحين - يقرأ على لغات العرب توسعة من الله لهم ، فلما أدى هذا الاختلاف في اللغات إلى التنازع والاختلاف بين المسلمين جمع الخليفة المسلمين على لغة واحدة هي لغة قريش أم قبائل العرب ،